السبعينية "جميلة" أدهشتنا ببقية قصتها :" لما دخلت يافا خليت السواق يمشي على طريق بيتنا لأسترجع ذكريات حياتنا رغم إني مش رح ألاقي حاجة من ريحة أهالينا وكل إشي رح يكون متغيّر
الزرقة تغلب على عينيها اللتين تختبئان داخلَ وجهٍ يزدحمُ بخطوطِ ملتوية ترسم معالم تاريخ عريق, أمّا عجيب أمرِها أنَّ شعرُها لمْ يغزوهُ الشيبُ الأبيضُ رغمَ ما تعرضتْ له بينَ ثنايا عمُرها من أوجاع وصدمات لا يمكنُ حصرها !.
"ريحة البر ولا عدمه" كلمات تمسّكت بها الحاجة "جميلة هاشم الجوجو" بعد أن اقتربت من الإمساك بأطراف حلم عودتها إلى مدينة يافا التي تعود أصولها إليها , أهو حلم أم حقيقة أم أحلام يقظة أم ماذا يا ترى؟, هكذا بدأت تحادث نفسها بعد أن وطأت أقدامها أعتاب بيتها العتيق الذي يقع على شاطئ بحر يافا بعد أن أصبح جسدها نحيف وعمرها يناهز منتصف السبعين .
"عِدّي لتشبعي من سنين عمري" تلك إجابة الحاجة “جميلة الجوجو” التي تخطّت منتصف السبعين من عمرها حين سألناها عن عدد سنوات حياتها التي ابتدأتها بالتهجير القسري من مدينة يافا وأكملتها بالزيارات المتقطعة لها بعد عمر طويل, لتسرد لنا تفاصيل قصتها التي أخبرت بها أبنائها وأحفادها من بعدهم ,وكل من سألها عن عروس البلاد.
على شط البحر
قبل أن تكبر "جميلة" كانت طفلة صغيرة أودعت في قلبها حب مدينة فتحت كلتا ذراعيها لكل زائر غريب, وطبعت في عقلها وقلبها ملامح بيتها العتيق الذي احتضنها منذ ولدت وحتى سن السادسة من عمرها ,حفظت التفاصيل الصغيرة لبيتها وكأنها كانت على علم بأنه سيصبح يوماً مجرد ذكرى وقصة شيّقة تفاصيلها أليمة لأجيال آتية من بعدها.
تسرد السبعينية "جميلة" والتي تزوجت من عائلة حشيشو قصتها بلكنتها اليافاوية الأصيلة :"طلعت من يافا وأنا عمري 6 سنين مع أهل, رغم إني كنت صغيرة بس كنت حافظة شوارع يافا وبحرها وناسها وبيوتها ومساجدها والصيادين والبياعين على الطريق وكتير تفاصيل, وكنت واعية على الأحداث الي بتصير, وإنه اليهود طلعونا من ديارنا غصبن عنا وصرنا نحكي كلها أسبوع ورح نرجع زي ما كنا وأحسن بس تهدى الأوضاع , حتى ما أخدنا من ديارنا غير زاد الطريق ومشينا".
إمالة نهاية حروف كلماتها تعبر عن أصالة يافا في مجرى عروقها ,والتي تميزت باختلاف لكنة سكانها عن غيرهم ,تتابع :"كبرت وأنا حاملة هم الرجعة للديار ,زي ما كل واحد بحن يرجع لمسقط رأسه أنا بحن أرجع وأندفن مطرح ما ولدتني إمي".
السبعينية "جميلة" أدهشتنا ببقية قصتها :" لما دخلت يافا خليت السواق يمشي على طريق بيتنا لأسترجع ذكريات حياتنا رغم إني مش رح ألاقي حاجة من ريحة أهالينا وكل إشي رح يكون متغيّر , كنت بعرف موقع البيت منيح لإنه كان قريب من شط البحر ومن أماكن رئيسية بيافا".
الدهشة أصابتها حين أكملت ما رأته وقت وصولها:"لقيت بيتنا واقف زي ما كان زمان ,دخلت فيه وحسيت الحيطان وشميت ريحته ,واسترجعت شريط حياتنا فيه وأنا صغيرة وهيني دخلته وأنا كبيرة وأسناني مخلعة ,دخلت غرف الدار كانو غرفتين , وحدة لإمي والتانية لستي والصالون كبير وفيه بير للمية كنا نشرب منه ونطبخ ونسقي شجر البرتقال والليمون إللي بحد الدار ونخلي الجيران يملوا منه وكان الخير كتير والديار دايماً عامرة".
وتكمل وصف موقع بيتها الذي هجّرت منه عام48 :"بيتنا كان موقعه سياحي لإنه قريب من شط بحر يافا وبحده جبلة أيوب, كانو كل الناس يجوا عند جبلة أيوب كل سنة مرة في تاريخ 4/4 ويسبحوا قبالة في البحر ويسألوا ربنا أمنية تيمنا بشفاء سيدنا أيوب في نفس المكان".
انقطعت الحاجة "جميلة" قرابة الأربعين عاماً عن مدينة يافا بسبب صعوبة الأوضاع والتشديد على منع دخول الفلسطينيين أمثالها إلى الداخل ولو كانت لأسباب علاجية , إلا أنها نجحت في إحدى الفترات التي سمح بها الدخول بتصاريح لزيارة الأقارب لفترة أقصاها لا تتجاوز الأربع وعشرون ساعة.
الفرصة الكبيرة التي اغتنمتها الحاجة "جميلة" بأنها كسبت تلك الفترة لتجعل لها موطأ قدم ثابت في أرضها من خلال تزويج اثنتين من بناتها إلى أقاربهن القاطنين في يافا ,مما دعاها لتبقى دائمة القدوم إلى يافا بين فترة وأخرى لترى ذاك البيت الذي عاشت بداخله مذ نعومة أظفارها , فأصبحت لا تغيب أكثر من ثلاثة أشهر عن مدينتها التي تودّعها في كل مرة ومن ثم تعود إليها متلهفة .
يغلب على حديث الحاجة "جميلة" الضحك والفكاهة وخفة الظل وهي تستحضر شريط الماضي والحاضر ,الماضي المؤلم الذي أبعدها عن أحب المدن إلى قلبها والحاضر المفرح الذي تتوسطه غصة موجعة بأنها مجرد عودة مؤقتة لا تسمن ولا تغني من جوع سوى أنها حققت ما تمنت منذ هجّرت .
تجمل الحاجة حديثها عن مدينتها الجميلة كما اسمها ومن حولها يتحلق أحفادها وهم يصغون جيداً لحديثها الشيق عن عروس البحر :"كانت يافا معروفة بإم الغريب لإنه ما كان واحد غريب يدخلها إلا يحبها وتصير جزء مهم من حياته وباب رزقته ,وأحلى وأجمل وأرقى مكان بيافا حي العجمي وفيه جامع يافا الكبير (المحمودية) بيشبه مسجد العمري الكبير".
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]