اغلاق
اغلاق
  ارسل خبر

مقال "صراع هُويتنا عبر التاريخ" بقلم: المربي خالد شقرة

 
بدأت الهويّة العربية بالتبلور قبل ظهور الإسلام، في الزمن المسمى تاريخياً بالعصر الجاهلي، وكانت قائمة على الانتماء العائلي والقبلي والتفاخر باللسان العربي والثقافة العربية بشكل كثيف، وبرزت صورها في الشعر العربي، فقد كانت للشعراء مكانة بارزة في المجتمع العربي، وكلما كان لسان المرء أفصح ارتقت مكانته بين قومه.
 
لقد كان الإسلام حضارة قبل أن يكون دولة, وضمت هذه الحضارة بين جناحيها العديد من الأجناس وأتباع الأديان والديانات الأخرى, وعاش فى ظلها الجميع بروح الإسلام المتسامحة فى معظم الأحيان, ولولا هذه الروح  لما تماسكت المجتمعات الإسلامية وبقيت قائمة حتى اليوم.
 
إن الإسلام هو الذي أعاد تكوين الشخصية العربية على نحو غير مسبوق فقد حول الإنسان العربي من الأنانية الفردية إلى التضامن الجماعي، وجعله يمسك نفسه عند الغضب ، ويتعود الحلم والعفو عند المقدرة ، كما أوصاه باحترام المرأة باعتبارها كائنا مخلوقا من نفس الرجل ، لها حقوقها وعليها واجباتها، ودفعه إلى الاحتكام إلى القصاص بدلا من الاندفاع إلى الثأر ، حيث فتحت الشعائر الدينية كالصلاة والصوم والزكاة والحج أبواب التعاون الحقيقي أمام العربي المسلم مع كل من حوله من أقارب أو أجانب ، مسلمين أو غير مسلمين.
 
الإسلام جاء بتعاليم المساواة بين الناس، ونبذ التمييز بينهم على أساس اللون أو العرق، مما أدى إلى ذوبان القبائل العربية ضمن بوتقة هوية عربية إسلامية، وبقيت متوارية بلا ملامح واضحة حتى ظهرت بشكل لافت مع نشوء الدولة الأموية، بزعامة بني أميّة، وعادت الروح القبلية العربية للظهور بقوة مما أدى إلى ظلم رعايا الدولة من غير العرب، مما ساهم بتأليب غير العرب وخاصة الفرس بزعامة أبو مسلم الخراساني على الانضمام إلى الدعوة العباسية المطالبة بإسقاط الدولة الأموية، فكان لهم أثر بالغ في إسقاط الدولة وتأسيس الدولة العباسية بزعامة بني العباس، عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
 
فطنة بنو العباس للخطأ الذي وقع به بنو أمية، أدى إلى زيادة مساهمة غير العرب في الحكم الإسلامي، وأدى إلى ارتقاء علماء مسلمين غير عرب، مما أدى إلى إثراء الهوية والثقافة العربية بشكل كبير جداً وانتقلت الهوية العربية من مفهومها القبلي الضيق لتتبلور كهوية حضارة عربية إسلامية عالمية بامتياز، وتميزت هذه المرحلة بازدياد هائل لحركة الترجمة إلى العربية مما ساهم بتألق لافت للثقافة والهوية العربية.
 
شكّل القرن السادس عشر الميلادي بداية انحدار مكانة الثقافة والهوية العربية، بتولي الأتراك العثمانيين قيادة الدولة الإسلامية، واستمر هذا الانحدار حتى بلغ أوجه بنهاية القرن التاسع عشر مع انتهاج الأتراك العثمانيين سياسة التتريك، مما أدى إلى حدوث انقلاب بالهوية العربية، لتتحول من كونها هوية ثقافية إلى هوية قومية، وشكلت بداية تبلور الهوية القومية العربية ذات الطابع السياسي العلماني بعيداً عن الهوية العربية الإسلامية.
 
ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين بدأت تتشكّل هويات إقليمية عربية بعيداً عن الهوية العربية الجمعية وساهمت الدول الاستعمارية التي ورثت المنطقة العربية من العثمانيين في تعميق هذا الانقسام بين الدول العربية، وتعزيز عصبيات إقليمية أدت إلى اندثار حلم تشكيل دولة بهوية عربية خالصة.
 
وفي منتصف القرن العشرين، عادت الحركات القومية العربية المنادية بوحدة العرب تحت راية واحدة متأثرة بكارثة ضياع فلسطين، حيث أيقنت الشعوب العربية أن ضياعها بفرقتها,  وأن لا مستقبل لها إلا ضمن كيان عربي واحد قوي، وبرز خلال هذه الفترة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي كان ينادي بالقومية العربية، وحدثت بعض الوحدة العربية، بعضها فشل كمشروع الوحدة بين مصر وسوريا، وبعضها كتب له النجاح كمجلس التعاون الخليجي الذي ما زال قائماً إلى الآن.
 
كيف نحفظ هويتنا؟
 
إن موضوع الهوية وكيفية الحفاظ عليها في حاجة إلى جهود ضخمة، فلابد لنا من ملء الفراغ الحضاري الذي وصلنا إليه؛ بتطوير معارفنا، والعمل على استيعاب القديم بعقل منفتح، كذلك علينا الحفاظ على اللغة الحافظة والناقلة لهذه الثقافة لأنها الضمانة الوحيدة لاستمرار هذا الكون وتطوره، ولا بأس بعد ذلك من الانفتاح على الآخر للاستفادة من علومه ومعارفه، بالإضافة إلى تعزيز الاعتزاز بالذات، ويأتي ذلك عن طريق تنمية الثقة لدي أفراد المجتمع العربي في أمته وحضارتها، فالأمة التي لا تثق بقدراتها ولا تقدر إمكانياتها الذاتية حق قدرها لا يمكن إلا أن تكون على الدوام ظلاً للآخرين، تابعة لهم، لا تعتمد إلا ما يقولون، ولا تنفذ إلا ما يقررون، وهذا هو التسول الحضاري بعينه، الذي يُمثِّل قمة العجز والفشل والاستسلام.
 
ولا يمكن بأي حال إغفال الدور التاريخي في الحفاظ على الهوية، لابد من العمل على استعادة ذاكرة التاريخ مرة ثانية للوقوف على تاريخ هذه الحضارة، وذلك لأن التاريخ عنصر مهم من عناصر الهوية العربية، ويشمل ذلك سرد الأحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية المتصلة بحقب مختلفة، وتحليلها في ضوء الدوافع والآثار والظروف الزمنية والمكانية، و استنباط العبر من النصر أو الهزيمة.
 
كما أن للإعلام العربي دور مهم في تعزيز مفهوم الهوية العربية، وذلك من خلال ترسيخ الانتماء للهوية العربية في نفوس الأجيال الناشئة ، وذلك من خلال عرض الجوانب المشرقة من صفحات الحضارة العربية، وإلقاء الضوء على الشخصيات المتميزة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية التي أسهمت بدور فعال في تاريخ الأمة العربية ، والكفاح الوطني ، كذلك من أهم واجبات الإعلام العربي أن يكتشف المواهب والقدرات العربية في مختلف المجالات ، وأن يبرز آليات وإنجازات العمل الجاد، بدلا من ذلك التركيز المبالغ فيه على نجوم الفن والرياضة وحدهم.
 
أجمل بذلك أنه من خلال دراسة الواقع العربي الفلسطيني في الداخل، نرى الفخ الذي يقع به أغلب الفلسطينيين عند استخدام اللغة العبرية بديلاً عن لغتهم العربية الأم بذريعة سهولة التعبير باللغة العبرية ضمن مجتمع إسرائيلي والذي مع الوقت يؤدي إلى تقهقر العربية ويؤدي بهم إلى اضمحلال الثقافة العربية الفلسطينية التي تتطلب وعاء اللغة لتعبر عن نفسها، وقد تؤدي هذه الظاهرة إلى ضعف التعبير العميق للناس عمّا لديهم باللغة العربية ويفضلون اللغة العبرية لتعودهم ممارستها، فتصبح اللغة العربية هي لغة المدارس والدوائر الرسمية فقط وليس لغة الواقع والشارع. ولقد ثبت واقعياً أن اندثار اللغة لأمة ما هو اندثار ذاتها وغياب شخصيتها وحقيقة وجودها، ولا أدلَّ على ذلك من حال الهنود الحمر في القارة الأمريكية حين غزاهم المهاجرون الأوروبيون ، فعملوا فيهم عسكرياً وثقافياً حتى أفقدوهم لغتهم وبالتالي ذاتيتهم وهويتهم الخاصة، وكذلك ما حصل في أوروبا وأمريكا بحق الرقيق السُّود، المجلوبين من إفريقيا، إذ لم يبق لهم من جميع أصولهم وخلفياتهم إلا ما تفرضه الوراثة من الأشكال والألوان.  
لذلك ونتيجة لما سبق علينا جميعاً مؤسسات وأفراد أن نولي اللغة العربية كل الاهتمام للنهوض بها والحفاظ عليها ضمن الوجود العربي الفلسطيني، للحيلولة دون اندثار ثقافتنا ولغتنا وبالتالي هويّتنا.
 

بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]

أضف تعليق

التعليقات

تعليقات Facebook